سورة الفتح - تفسير تفسير ابن الجوزي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الفتح)


        


قوله تعالى: {هُمُ الذين كفَروا} يعني أهل مكة {وصدًّوكم عن المسجد الحرام} أن تطوفوا به وتحلّوا من عُمرتكم {والهَدْيَ} قال الزَّجاج: أي: وصدُّوا الهدي {معكوفاً} أي: محبوساً {أن يبلُغَ} أي: عن أن يبلُغَ {مَحِلَّه} قال المفسرون: {مَحِلّه} مَنْحَره، وهو حيث يَحِلُّ نَحْرُه {ولولا رجالٌ مؤمِنون ونساءٌ مؤمنات} وهم المستَضعفون بمكة {لم تَعْلَموهم} أي: لم تعرفوهم {أن تطؤُوهم} بالقتل. ومعنى الآية: لولا أن تطؤوا رجالاً مؤمنين ونساءٌ مؤمنات بالقتل، وُتوقِعوا بهم ولا تعرفونهم، {فتُصيبَكم منهم مَعَرَّةٌ} وفيها أربعة أقوال.
أحدهما: إِثم، قاله ابن زيد.
والثاني: غُرم الدِّيَة، قاله ابن إِسحاق.
والثالث: كفّارة قتل الخطأ، قاله ابن السائب.
والرابع: عيب بقتل مَنْ هو على دينكم، حكاه جماعة من المفسرين. وفي الآية محذوف، تقديره: لأدخلتُكم من عامكم هذا؛ وإنما حُلْتُ بينكم وبينهم {لِيُدْخِلَ اللهُ في رحمته} أي: في دينه {من يشاء} من أهل مكة، وهم الذين أسلموا بعد الصُّلح {لو تزيَّلوا} قال ابن عباس: لو تفرَّقوا. وقال ابن قتيبة، والزجاج: لو تميَّزوا. قال المفسرون: لو انماز المؤمنون من المشركين {لعذَّبْنا الذين كفروا} بالقتل والسَّبْي بأيديكم. وقال قوم: لو تزيَّل المؤمنون من أصلاب الكُفّار لعذَّبْنا الكفار. وقال بعضهم: قوله: {لعذَّبْنا} جواب لكلامين.
أحدهما: {لولا رجال}،
والثاني: {لو تزيَّلوا} وقوله: {إِذ جَعَل} من صلة قوله: {لعذَّبْنا}. والحميَّة: الأنَفَة والجَبَريَّة. قال المفسرون: وإنما أخذتهم الحمية حين أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم دخول مكة، فقالوا: يدخلون علينا وقد قتلوا أبناءنا وإِخواننا فتتحدَّث العربُ بذلك! واللهِ لا يكون ذلك، {فأنْزَلَ اللهُ سكينته على رسوله وعلى المؤمنين} فلم يَدخُلْهم ما دخل أولئك فيخالفوا الله في قتالهم. وقيل: الحميَّةُ ما تداخل سهيلَ بن عمرو من الأنَفَة أن يكتُب في كتاب الصُّلح ذِكْر الرحمن الرحيم وذِكْر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى: {وألزَمَهم كَلِمةَ التَّقوى} فيه خمسة أقوال.
أحدهما: لا اله إلا الله، قاله ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وقتادة، والضحاك، والسدي، وابن زيد في آخرين، وقد روي مرفوعاً إِلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ فعلى هذا يكون معنى: {ألزَمَهم}: حَكَمَ لهم بها، وهي التي تَنفي الشِّرك.
والثاني: لا إِله إلا الله والله أكبر، قاله ابن عمر. وعن علي بن أبي طالب كالقولين.
والثالث: لا إِله إِلا الله وحده لا شريك له له المُلك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، قاله عطاء بن أبي رباح.
والرابع: لا ِإله إِلا الله محمد رسول الله، قاله عطاء الخراساني.
والخامس: بسم الله الرحمن الرحيم، قاله الزهري.
فعلى هذا يكون المعنى: أنه لمّا أبى المشركون أن يكتُبوا هذا في كتاب الصُّلح، ألزمه اللهُ المؤمنين. {وكانوا أحقَّ بها} من المشركين {و} كانوا {أهلَها} في عِلْم الله تعالى.


قوله تعالى: {لقد صَدَقَ اللهُ رسولَه الرُّؤيا بالحق} قال المفسرون: سبب نزولها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أُري في المنام قبل خروجه إلى الحديبية قائلاً يقول له: {لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام} إِلى قوله: {لا تَخافونَ} ورأى كأنه هو وأصحابه يدخُلون مكة وقد حَلَقوا وقصَّروا، فأخبر بذلك أصحابَه ففرِحوا، فلمّا خرجوا إِلى الحديبية حَسِبوا أنهم يدخُلون مكة في عامهم ذلك، فلمّا رجعوا ولم يدخُلوا قال المنافقون: أين رؤياه التي رأى؟! فنزلت هذه الآية، فدخلوا في العام المقبل.
وفي قوله: {إِنْ شاء اللهُ} ستة أقوال.
أحدها: أن {إن} بمعنى إذ، قاله أبو عبيدة، وابن قتيبة.
والثاني: أنه استثناء من الله، وقد عَلِمه، والخَلْق يستثنون فيما لا يَعْلَمون، قاله ثعلب؛ فعلى هذا يكون المعنى أنه عَلِم أنهم سيدخُلونه، ولكن استثنى على ما أُمر الخَلْق به من الاستثناء.
والثالث: أن المعنى: لتدخُلُنَّ المسجد الحرام إِن أمركم اللهُ به، قاله الزجاج.
والرابع: أن الاستثناء يعود إلى دخول بعضهم أو جميعهم، لأنه عَلِم أن بعضهم يموت، حكاه الماوردي.
والخامس: أنه على وجه الحكاية لِما رآه النبيُّ صلى الله عليه وسلم في المنام أن قائلاً يقول {لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام إِن شاء الله آمنين}، حكاه القاضي أبو يعلى.
والسادس: أنه يعود إِلى الأمن والخوف، فأمّا الدُّخول، فلا شَكَّ فيه، حكاه الثعلبي.
قوله تعالى: {آمنين} من العَدُوِّ {محلِّقين رؤوسكم ومقصِّرين} من الشَّعر {لا تَخافونَ} عدُوّاً.
{فعَلِم ما لم تَعْلَموا} فيه ثلاثة أقوال.
أحدها: عَلِم أن الصَّلاح في الصُّلح.
والثاني: أن في تأخير الدُّخول صلاحاً.
والثالث: فعلم أن يفتح عليكم خيبر قبل ذلك.
قوله تعالى: {فجَعَلَ مِنْ دون ذلك فتحاً قريباً} فيه قولان:
أحدهما: فتح خيبر، قاله أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال عطاء، وابن زيد، ومقاتل.
والثاني: صلح الحديبية، قاله مجاهد، والزهري، وابن إِسحاق وقد بيَّنّا كيف كان فتحاً في أول السورة.
وما بعد هذا مفسر في [براءة: 33] إِلى قوله: {وكفى بالله شهيداً} وفيه قولان:
أحدهما: أنه شَهِدَ له على نَفْسه أنه يُظْهِره على الدِّين كُلِّه، قاله الحسن.
والثاني: كفى به شهيداً أن محمداً رسوله قاله مقاتل.


قوله تعالى: {محمدٌ رسولُ الله} وقرأ الشعبي، وأبو رجاء، وأبو المتوكل، والجحدري: {محمداً رسولُ الله} بالنصب فيهما. قال ابن عباس شَهِد: له بالرِّسالة.
قوله تعالى: {والذين معه} يعني أصحابه والأشدّاء: جمع شديد. قال الزجاج: والأصل أَشْدِدَاءُ، نحو نصيب وأنصباء، ولكن الدّالَين تحركتا، فأُدغمت الأولى في الثانية، ومثله {مَنْ َيْرَتَّد منكم} [المائدة: 54].
قوله تعالى: {رُحَماءُ بينَهم} الرُّحَماء جمع رحيم، والمعنى: أنهم يُغْلِظون على الكفار، وَيتوادُّون بينَهم {تَراهم رُكَّعاً سُجَّداً} يَصِفُ كثرة صَلاتهم {يبتغون فَضْلاً من الله} وهو الجنة {ورِضواناً} وهو رضى الله عنهم. وهذا الوصف لجميع الصحابة عند الجُمهور وروى مبارك بن فضاله عن الحسن البصري أنه قال: {والذين معه} أبو بكر {أشداء على الكفار} عمر {رحماء بينهم} عثمان {تراهم رُكَّعاً سُجَّداً} عليّ بن أبي طالب {يبتغون فضلاً من الله ورضواناً} طلحة والزبير وعبدالرحمن وسعد وسعيد وأبو عبيدة.
قوله تعالى: {سِيماهم} أي: علامتهم {في وُجوههم}، وهل هذه العلامة في الدنيا، أم في الآخرة؟ فيه قولان:
أحدهما: في الدنيا. ثم فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها السَّمْت الحسن، قاله ابن عباس في رواية ابن أبي طلحة؛ وقال في رواية مجاهد: أما إِنه ليس بالذي ترون، ولكنه سيما الإِسلام وسَمْتُه وخُشوعُه، وكذلك قال مجاهد: ليس بِنَدَبِ التراب في الوجه، ولكنه الخُشوع والوَقار والتواضع.
والثاني: أنه نَدَى الطَّهور وتَرَى الأرض، قاله سعيد بن جبير. وقال أبو العالية: لأنهم يسجُدون على التراب لا على الأثواب. وقال الأوزاعي: بلغني أنه ما حمَلَتْ جباهُهم من الأرض.
والثالث: أنه السُّهوم، فإذا سهم وجه الرجُل من الليل أصبح مُصفارّاً. قال الحسن البصري: {سيماهم في وجوههم}: الصُّفرة؛ وقال سعيد بن جبير: أثر السهر؛ وقال شمر بن عطية: هو تهيُّج في الوجه من سهر الليل.
والقول الثاني: أنها في الآخرة. ثم فيه قولان:
أحدهما: أن مواضع السجود من وجوههم يكون أشدَّ وجوههم بياضاً يوم القيامة، قاله عطية العوفي، وإِلى نحو هذا ذهب الحسن، والزهري. وروى العوفي عن ابن عباس قال: صلاتهم تبدو في وجوههم يوم القيامة.
والثاني: أنهم يُبْعَثون غُراً محجَّلين من أثر الطَّهور، ذكره الزجاج.
قوله تعالى: {ذلك مَثَلُهم} أي: صِفَتُهم والمعنى أن صفة محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه {في التوراة} هذا.
فأما قوله: {ومَثَلُهم في الإِنجيل} ففيه ثلاثة أقوال.
أحدها: أن هذا المَثَل المذكور أنه في التوراة هو مَثَلُهم في الإِنجيل. قال مجاهد: مَثَلُهم في التوراة والإِنجيل واحد.
والثاني: أن المتقدِّم مَثَلُهم في التوراة، فأمّا مَثَلُهم في الإِنجيل فهو قوله: {كزرعٍ}، وهذا قول الضحاك، وابن زيد.
والثالث: أن مَثَلَهُم في التوراة والإِنجيل كزرع، ذكر هذه الأقوال أبو سليمان الدمشقي.
قوله تعالى: {أَخْرَجَ شَطْأهَُ} وقرأ ابن كثير، وابن عامر: {شَطَأَهُ} بفتح الطاء والهمزة. وقرأ نافع، وعاصم، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: {شطْأه} بسكون الطاء. وكلهم يقرأ بهمزة مفتوحة. وقرأ أُبيُّ بن كعب، وأبو العالية، وابن أبي عبلة: {شَطاءَهُ} بفتح الطاء وبالمد والهمزة وبألف. قال أبو عبيدة: أي فِراخه يقال أشطأ الزَّرعُ فهو مُشْطِئ: إِذا أفرخ {فآزره} أي: ساواه، وصار مثل الأُمّ. وقرأ ابن عامر: {فأَزَرَهُ} مقصورة الهمزة مثل فَعَلَهُ. وقال ابن قتيبة: آزره أعانه وقوّاه {فاستغلظ} أي: غَلُظ {فاستوى على سُوقِهِ} وهي جمع ساق، وهذا مَثَلٌ ضربه اللهُ عز وجل للنبيَّ صلى الله عليه وسلم إِذ خرج وحده، فأيَّده بأصحابه، كما قوَّى الطَّاقة من الزَّرع بما نبت منها حتى كَبُرتْ وغَلُظت واستحكمت. وقرأ ابن كثير: على {سُؤْقه} مهموزة؛ والباقون بلا همزة. وقال قتادة: في الإِنجيل: سيَخْرج قومٌ ينبتون نبات الزَّرع. وفيمن أُريدَ. بهذا المثَل قولان:
أحدهما: أن أصل الزَّرع: عبد المطلب {أخرج شطأه} أخرج محمداً صلى الله عليه وسلم {فآزره}: بأبي بكر {فاستغلظ}: بعمر {فاستوى}: بعثمان {على سوقه}: عليّ بن أبي طالب، رواه سعيد ابن جبير عن ابن عباس.
والثاني: أن المراد بالزَّرع محمد صلى الله عليه وسلم {أخرج شطأه} أبو بكر {فآزره} بعمر {فاستغلظ} بعثمان {فاستوى على سوقه}: بعليّ {يُعْجِبُ الزُّرّاعَ}: يعني المؤمنين {لِيَغيظَ بهم الكُفّار} وهو قول عمر لأهل مكة: لا يُعْبَدُ اللهُ سِرَاً بعد اليوم، رواه الضحاك عن ابن عباس، ومبارك عن الحسن.
قوله تعالى: {لِيَغيظَ بهم الكُفّار} أي: إِنَّما كثَّرهم وقوَّاهم لِيَغيظ بهم. الكُفّار. وقال مالك بن أنس: من أصبح وفي قلبه غيظ على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أصابته هذه الآية. وقال ابن إِدريس: لا آمَنُ أن يكونوا قد ضارعوا الكُفّار، يعني الرّافضة، لأن الله تعالى يقول: {لِيَغيظَ بهم الكُفّار}.
قوله تعالى: {وَعَدَ اللهُ الذين آمنوا وعَمِلوا الصالحات منهم مغفرةً وأجراً عظيماً} قال الزجاج: في {مِنْ} قولان:
أحدهما: أن يكون تخليصاً للجنس من غيره، كقوله: {فاجتَنِبوا الرِّجْسَ من الأوثان} [الحج: 30]، ومثله أن تقول: أَنْفِقْ من الدَّراهم، أي: اجعل نفقتك من هذا الجنس. قال ابن الأنباري: معنى الآية: وَعَدَ اللهُ الذين آمَنوا من هذا الجنس، أي من جنس الصحابة.
والثاني: أن يكون هذا الوعْدُ لِمن أقام منهم على الإيمان والعمل الصالح.

1 | 2 | 3